ثورة تكنولوجية تؤسس عالم "ما بعد الرأسمالية"

يعيش العالم منذ منتصف تسعينات القرن الماضى ثورة صامتة ، هى ثورة المعلومات التى استطاعت بهدوء شديد زلزلة الكثير من المفاهيم الاقتصادية التقليدية و عظمت أزمة النظام الرأسمالى الذى يعيش أزمات متعددة خاصة منذ تخليه عن التنظيم الكنزى التى اعتبرت فترته أزهى فترات الرأسمالية حتى أطلق على فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بالعصر الذهبى للرأسمالية ، لتأتى السبعينات ليتراجع التنظيم الكنزى للاقتصاد و تتغير بالتالى البنى الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية …

عرفت الرأسمالية منذ أكثر من مائتى عام أن الحركة العمالية سيصبح لها تأثير كبير على العملية السياسية و توجهاتها و ظهر هذا عندما كتب فى تلك الفترة السياسى و الصحفى البريطانى جون ثيلوال محذراً «إن كل ورشة كبيرة أو مصنع هو نوع من المجتمع السياسى لا يستطيع أى برلمان إسكاته و لا تستطيع أى محكمة حله» ، تلك الكلمات كانت بمثابة إنذاراً مبكراً لها ، و هذا ما تعلمته الرأسمالية و كان أحد عوامل تدافعها للتحول الكبير الذى شهدته إلى الأتمتة الذى بدأت أولى خطواته أوائل سبعينات القرن الماضى و الانتقال تدريجياً إلى الاستغناء عن خطوط الإنتاج التقليدية التى تعتمد على قوة عمل العامل و مهاراته ، لتأتى أواخر الثمانينات ليبدأ عصر سيطرة الآلة على العملية الإنتاجية ، و اصبح خط الإنتاج الذى كان يقوم على أدراته ما بين 300 إلى 350 عامل لا يديره أكثر من خمسة أو ستة أفراد يجلسون أمام شاشات المراقبة لمتابعة عمل الآلة التى أخذت مكان العامل …

المبدأ الأهم للرأسمال تاريخياً ليس زيادة الإنتاج و لكن تخفيض الكلفة الإنتاجية حتى يستطيع زيادة تراكم الأرباح لديه من خلال البيع بأقل سعر ممكن لإزاحة منافسيه ، و يشرح لنا ”آرنست ماندل“ فى كتابه ”النظرية الاقتصادية الماركسية“ كيف تم ذلك :
«لقد رأت صناعة السجائر النور فى الولايات المتحدة فى ستينات القرن التاسع عشر ، و فى البداية كان كل العمل يدوياً و لم يكن العامل المختص يستطيع أن يلف أكثر من 3000 سيجارة فى يوم عمل كامل مدته 10 ساعات ، و فى عام 1876 كانت تكاليف الأجور 96٫4 سنت لكل ألف سيجارة من ماركة محددة ، و قد قدمت آنذاك إحدى الشركات جائزة قدرها 75٫000 دولار لاختراع آلة لصنع السجائر ، و عرض”بونساك“فى عام 1881 آلة عقلانية تنتج من 200 إلى 220 سيجارة فى الدقيقة و تخفض الأجور من 96٫4 سنت إلى 2٫00 سنت لكل ألف سيجارة و كان فى وسع آلة واحدة من تلك الآلات أن تنتج كل السجائر التى كانت تصنع باليد فى الولايات المتحدة فى عام 1875...»

أدى هذا التغيير فى العملية الإنتاجية إلى مجموعة كبيرة من التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية بإلغاء العديد من الضوابط التى كانت تحكم العملية الاقتصادية ، فبسبب الإسراع فى التحول إلى الأتمتة بداية من سبعينات القرن الماضى اثر هذا على الطبقة العاملة خاصة الأوروبية و الأمريكية التى بدأ عددها يتقلص فى مقابل الآلة التى أخذت مكان العاملين ، و بالتالى تأثرت الأسواق بانخفاض القدرة الشرائية لدى جانب كبير من المجتمعات فكان لابد للرأسمالية التى شعرت بالأزمة تزلزل الأرض تحتها بضرورة الوصول إلى حل لتلك المشكلة فالبضائع المنتجة لن تجد من يستطيع شرائها لتجد الحل فيما سمى ببطاقات الائتمان Credit Card ، لكنه لم يكن حل جذرى للمشكلة فلم يكن أكثر من عملية تأجيل للانفجار و نقلها إلى جانب آخر ، لكن هذا الحل الورقى كان بداية لتحولات أكبر فيما عرف بالتوريق المالى للاقتصاد و لهذا قصة أخرى أكبر ليست الغرض من تلك السطور ... 
 
لم تتوقف عمليات التحديث فقط على الأتمتة و الذكاء الصناعى ، تبع ذلك ظهور قوة اقتصادية جديدة هى المعلوماتية التى كانت بمثابة ثورة علمية جديدة لها تأثيراتها الكبيرة على العملية الاقتصادية ، فقد أفرزت عن رافد اقتصادى جديد اندفعت الرأسمالية للاستفادة سريعاً منه و السيطرة عليه فى وقت لم تتبلور بعد طبيعته و لم تتضح أمام الجميع بنيته الأساسية ، لتنطلق بأواخر الثمانينات شركات على سبيل المثال مايكروسوفت ، آبل و آى . بى . أم مهيمنة على هذا الرافد الجديد لكن تلك الهيمنة بدأت حالياً فى التحلل أمام طبيعة البنية الأساسية للمعلوماتية و اقتصاديتها ، فطبيعة المعلوماتية لا تعترف بالاحتكار بينما فى المقابل تلك الشركات قائمة على مبدأ أحتكار المعرفة و بالتالى أحتكار المنتج القائم عليها ؛ إن طبيعة قوة المعلوماتية التى تعتمد فى أساسها على الابتكار و التجديد المستمر لا ترتكز على مفاهيم احتكارية فى كينونتها التى تعتمدها الرأسمالية ، هذا أدى إلى ظهور قوة رفض مجتمعية تمثلت فى مفاهيم جديدة أسسها ريتشارد ستيلمان و هو مطور أمريكى الجنسية تمرد على تلك المفاهيم الاحتكارية و قرر وضع مفاهيم جديدة تناهض الفكر الرأسمالى الاحتكارى ليؤسسحركة البرمجيات الحرة“ …

إن طبيعة الإنتاج المعلوماتى تختلف أقتصاديا عن المنتج الصناعى التقليدى ؛ فحتى ستينات القرن الماضى كان علماء الاقتصاد يرون أن المعلومات سلعة عامة“ حتى أتى عالم الاقتصاد كينيث آرو ليؤسس مفهوم جديد ؛ وجد آرو أن هناك روافد اقتصادية جديدة لها طبيعة خاصة تعتمد على الخلق و الابتكار الدائم فأشار إلى مفهوم حقوق الملكية الفكرية للمعلومة و المنتج القائم عليها ، القضية ليست بتلك البساطة بل هى أكثر تعقيداً بكثير خاصة مع انتشار و سيطرة الشبكات على حياتنا ، فقوة المعلوماتية ازدادت لتكون ما يمثل العقل العام للمجتمع ، فهى لا تقتصر فقط على البرمجيات بل تعدتها إلى عاداتك الحياتية اليومية التى باتت جزء من المعلوماتية ، فكل شئ أصبح عبارة عن معلومة و بات تحت المراقبة و التحليل و السيطرة ليتحول إلى سلعة يتم تداولها ، ميعاد نومك ، استيقاظك ، نوع المواصلات التى تستخدمها ، الطعام الذى تقوم بطلبه عبر التليفون و أشياء أخرى كثيرة كل تلك الأشياء باتت جزء من شبكة المعلومات الكبيرة التى أصبحنا جزء منها …

شكلت المعلومات بالنسبة للرأسمالية سلعة يمكن تداولها و بيعها ، إلا أن تلك السلعة كان من المستحيل تسعيرها ، لذا أخذت شكل التخمين فلا توجد معايير واضحة يمكن الارتكاز عليها لمعرفة ثمن تلك المعلومات محاسبياً ، كما الحال مع حقوق الملكية الفكرية التى تعتمد على التخمين أيضاً فى تثمينها ، فلا توجد أيضا معايير ثابتة يمكن من خلالها تقدير ثمنها …

الأزمة التى وقعت فيها الرأسمالية هى أن تلك المعلومات مع الوقت تفقد قيمتها التسعيرية حتى تصل إلى الصفر ، فالمعلومة بطبيعتها متغيرة و متقلبة ، فلا توجد آلية ثابتة لتطورها و نموها أو اضمحلالها ، فهى تفيد فى توقيت محدد للحظة آنية تختلف نتائج تحليلها بتغير العوامل المؤثرة على صنعها ، كذلك سهولة نقل المعلومة بنسخها و نشرها و بالتالى تفقد قيمتها التسعيرية التقديرية لتصل إلى الصفر المطلق ، لذا فالشركات لا تستطيع أن تشرح لحملة الأسهم الأسس التى يتم من خلالها حساب قيمتها التسعيرية ، فهى تحتوى على مخاطر ليست ضمن الأطر الاقتصادية فالمتغيرات المؤثرة لا يمكن حسابها لتكون المعلومة / السلعة واحدة من أكبر عناصر الخلل فى المنظومة الاقتصادية الحالية و التى أصبحت تعتمد عليها بشكل كبير …

هذا ينطبق أيضا على المنتج المعلوماتى – البرمجيات - مثل نظم تشغيل و تطبيقات الحاسب الآلى لكن بشكل مختلف قليلاً ، حيث تقل تكلفة أنتاجها مع توالى الإصدارات ، حتى تصل إلى مستوى متدنى للغاية و بالتالى فى النظام الرأسمالى الاحتكارى تتزايد الأرباح إلى نواتج متضاعفة ، لذا جاهدت الرأسمالية للحفاظ على هذا النمط للحصول على مزيد من المكاسب ، لكن المجتمعات لا تقف مستسلمة ، من هنا أتى نموذج مخالف للنموذج الرأسمالى يعتمد على المجتمع فى أنتاج أحتياجه من نظم تشغيل و تطبيقات يتمثل ذلك فى أنظمة التشغيل جنو / لينكس و تطبيقاتها التى تعتمد فى صنعها على مجتمعات من المطورين و المستخدمين يقومون بإنتاج ما يحتاجه المجتمع العام منها ؛ هذا النموذج يعتبر مثالا عمليا واضحا لنمط جديد قد يؤسس لحقبة إنتاجية قادمة ، تعتمد فى أساسها على قوة المجتمع فى إنتاج احتياجاته ، أشار إليها عدد من المفكرين الاقتصاديين أنها شرارة تأسيس عالم بـ ما بعد الرأسمالية ، و لكن هل يصلح هذا النموذج للأنماط الإنتاجية الأخرى مثل المنتجات الصناعية الفيزيائية … ؟ !

إن تلك النقلة النوعية هل يمكن اعتبارها إشارة إلى عودة الأفكار الشيوعية مرة أخرى لتفرض نفسها على حركة التاريخ أمام السياسات الاقتصادية المتحررة ، و يحضرنى هنا سلافوى جيجكفى كتابه ”بداية كمأساة و أخرى كمهزلة عندما قال «على المرء أن يمنح كل الثقل لمصطلحات المواطنة العالمية و الاهتمام المشترك حتى يصل إلى الحاجة لتأسيس منظمة عالمية تعدل و توجه آليات السوق و تشرح وجهة نظر الشيوعية بطريقة مناسبة ...»
تلك النقلة النوعية تفرض علينا تساؤل آخر هل ما يحدث هو محاولة إحياء جديد مقارب لنمط الإنتاج الشيوعى ... ؟ ! ، ربما يكون ما يحدث يقترب من شكل التمرد على النمط الرأسمالى التى قامت بعملية تسليع لكل شئ حتى الإنسان و قدراته الابداعية مما أستوجب البحث عن نمط أنتاج مختلف يحرر الإنسان من قيود السوق الرأسمالى ، ساهم على انتشار تلك المفاهيم ظروف و أجواء حضارية حديثة – شبكة الأنترنيت - أتاحت للبشرية التواصل مكونة شكل حضارى أنسانى متجدد يتخطى الحدود السياسية ، القوميات ، الإثنيات و الأديان ترتكز على الإنسان بوجوده المجرد و ترتقى بحالته الفردية إلى حالة مجتمعية إنسانية لتخلق نمط إنتاج تناحرى مع النمط الرأسمالى …

من الملاحظ فى هذا النمط الإنتاجى الجديد المستحدث أنه يقارب بشكل كبير مع ما طرحه كارل ماركس إن الرأسمالية هى مرحلة تاريخية و ستتجاوزها المجتمعات ببناء ”المجتمع الشيوعى ، فإذا تابعنا هذا النمط الإنتاجى الجديد فهو فى وجهه الأول نمط يقوم على إنتاج قيم تبادل منفعة تقوم على تحويل مباشر لعدد من العلاقات – نشاط العمل ، الإنتاج ، الاستهلاك ، و العلاقة بين الفرد و المجتمع – و ينظمها فى إطار من التوازن الدائم ، أما فى وجهه الثانى فهو ينتج سلعاً فى إطار احتياجاته و قدراته أى انه يقوم على الحاجة ، لتصل بنا تلك التجربة إلى مواجهة مباشرة لعامل ”الاستلاب السلعىالذى أشار إليها ”كارل ماركس“ فى ”مخطوطات 1844 الاقتصادية و الفلسفية، فهو يحرر الفرد و المجتمع من قانون السوق و تحقق سيطرة المجتمع على مصيره بإلغاء مبدأ الملكية الفردية و إبداله بالملكية المجتمعية التشاركية فى العملية الإنتاجية بخلق نموذج جديد للإدارة الأعمال لا يعتمد على قيم أسمية للأسهم أو حجم المساهمة المادية و الملكية فى الرأسمال بل يعتمد على القدرة الإنتاجية للفرد المشارك فى العملية الإنتاجية فهو لا يملك بل إن الصانع و المستهلك يقفون على نفس الدرجة من السلم الذى تم كسره من الأساس لتبقى درجة واحدة يقف الجميع عليها متساوين ، لا حدود تفرق بينهم ، فتلك التجربة تجاوزت مفهوم الملكية التقليدى إلى آخر مغاير ، فالسلعة المنتجة يجب أن يكون لها قيمة استعمال و قيمة تبادل ، لكن هذا النمط أخرج مفهوم التبادل السلعى (السوق) ليبقى مفهوم الحاجة ، أى انه يختزل القيمة فى الاستعمال أو الحاجة لتكون هى أساس العملية الإنتاجية ، لتحل قيم المنفعة المجتمعية بديلا لقيم التبادل السوقى ، من هنا جاءت تسميةاقتصاد المشاركةالتى أطلقها البعض على هذا النمط الإنتاجى لتعبر عن قيمة تشاركية مجتمعية لتكون هى العامل المؤثر فى العملية الإنتاجية ، ليطرح تساؤل هل هذا النمو سيستمر متكاملاً مع إنسانيته لينطلق و يتطور لبناء فترة انتقالية بين الرأسمالية و الاشتراكية لبناء طريق التغيير الشامل … ؟ !
 
علمنا التاريخ أن أى نموذج اقتصادى بديل ينشأ هو إما انعكاس - فى غالبه - لأزمة النموذج الجارى ، أو تطوير ما حدث فى العملية الإنتاجية أدى إلى ضرورة إخراج النموذج القديم من المعادلة ، و فى حالتنا العاملين مؤثرين بشكل كبير فلا زالت تعانى الرأسمالية فى الخروج من أزمتها التى باتت شبه مزمنة حيث لا يزال علماء الاقتصاد يحذرون إن فترة الكساد ستستمر لفترات أطول ، فبطء خطوات الخروج من تلك الأزمة حثيث للغاية و المردود الاجتماعى و السياسى المضطرب الذى نراه اليوم بات يغلف العالم بحروب مستعرة مصطنعة و اضطرابات أجتماعية و سياسية ، فزيادة المعاناة الاقتصادية للطبقة العاملة هى نتيجة لتلك للأزمة ، كذلك انتشار الأفكار الفاشية الدينية و العنصرية التى أطلقتها الرأسمالية محاولة الهروب و الخلاص من أزمتها الحالية ، و على الجانب الآخر عمليات التطوير المستمر فى منظومة العملية الإنتاجية التى أضافتها المعلوماتية وضعت كافة النماذج القديمة فى مأزق بعدم قدرتها على مجاراة هذا التحديث ...

استطاع هذا النموذج البديل كسر حالة التبعية ، فهو بتناحره مع مفاهيم الاحتكار يخلق نمط مخالف يعطى حق المعرفة و التطوير و الإنتاج للجميع ليكسر السيطرة الاحتكارية التى فرضتها دول المركز الرأسمالى على دول الأطراف ، ليؤسس أزمة جديدة فى بنيتها ، فالمنظومة الرأسمالية نتيجة لنموها و تطورها الطبيعى لا تستطيع العمل إلا فى ظل الاحتكارات ، لكن فى ظل هذا الاضطراب الذى تشهده الرأسمالية بدأت تنمو أقتصاديات شبه مغايرة استطاعت أن تحقق قفزة واضحة فى الاقتصاد العالمى و تؤكد وجودها ، استفادت تلك الدول من الفرصة الكبيرة التى أتاحتها المعلوماتية بأشكالها المتعددة و فى خلال السنوات الأخيرة شاهدنا تجارب ناجحة فى كل من البرازيل و الهنـد و عدد آخر من البلدان تشجع العمل بأنظمة و تطبيقات تقوم على مبدأ البرمجيات الحرة و المصادر المفتوحة للخروج من حصار الاحتكار الذى فرضته الرأسمالية للسيطرة على مقدرات الشعوب و نهب ثرواتها ، لتنطلق دولة مثل الهند لتؤكد وجودها الاقتصادى و العلمى و تطوره بإطلاق سفينة فضاء إلى كوكب المريخ لتنجح من أول محاولة فى الوصول إلى هذا الكوكب معتمدة على تكنولوجيا و برمجيات تنتهج مفاهيم البرمجيات الحرة و المصادر المفتوحة بتكلفة متدنية للغاية ، و فى البرازيل قامت وزارة التعليم بمبادرة بدأت منذ عام 2008 فى إحلال أنظمة التشغيل جنو / لينكس ، و البرمجيات الحرة لتحل بديلا للبرمجيات المغلقة المصدر المحتكرة ، هذه المبادرة تخدم أكثر من 52 مليون طالب على مستوى دولة البرازيل ، و هناك تجارب أخرى ناجحة فى كل من كوبا و روسيا و فنزويلا ...

حقوق الملكية الفكرية نموذج للسيطرة الرأسمالية

يقول دكتور سمير أمين فى كتابه ما بعد الرأسمالية المتهالكة : «إن الآثار البعيدة المدى للثورة العلمية و التقنية الجارية ، إذا كانت الثورة – تحديداً المعلوماتية و الأتمتة التى تدفعها – تعبر عن نفسها بواقع أعلى من الإنتاج المادى ، فيمكن الحصول عليها بعمل أقل (لكن أكثر مهارة و تخصصاً) و رأسمال أقل فى آن ، فيجب أن نستنتج إذاً أن نمط الإنتاج الرأسمالى قد أستنفذ دوره التاريخى ، لأن الرأسمال مبنى على سيطرته على العمل ، بكلام آخر لم تعد علاقات الإنتاج الرأسمالية تسمح باستمرار تراكم دائم ، فهو الذى يحدد مهمتها التاريخية»

وقعت الرأسمالية فى فخ لاهوت الخلاص حين طرحت نفسها على أنها أيديولوجية إنقاذ البشرية ، فإذا كانت الشيوعية طرحت أن الطبقة العاملة هى التى فى أيديها الخلاص ، فى المقابل طرحت النيوليبرالية الرأسمالية إن الشركات المتعددة الجنسيات و رجال الأعمال و المؤسسات المالية و صندوق النقد و البنك الدولى و منظمة التجارة العالمية و قادة الدول الصناعية الكبرى فى ايديهم الحل السحرى ، حتى باتت أجتماعاتهم و القرارات التى يتوصلون لها بمثابة اللاهوت الجديد للعالم ... 
 
نجحت الرأسمالية من خلال منظمة التجارة العالمية بداية من منتصف التسعينات أن تؤسس لنفسها ميزة تفضيلية من خلال إعادة صياغة مفاهيم حقوق الملكية الفكرية و الصناعية للحفاظ على سيطرة الشركات الكبرى عابرة الأوطان لخلق عقبات و حواجز لأى محاولة تحرر مستقلة عن المركز الرأسمالى ، و خلال العشر سنوات الأخيرة تحاول المنظمة تمرير ما أطلق عليه International Business Law - القانون الدولى للأعمال - الذى تم صياغته لتشكيل منظومة قانونية فوق الدولة الوطنية ، لتتحول المنظمة إلى الحاكم الفعلى لدول الأطراف التى لا زالت تعيش أنماط إنتاج ما قبل الرأسمالية

استطاع نمط الإنتاج المعلوماتى تعميق أزمة الرأسمالية ، فمفاهيم حقوق الملكية الفكرية يمكن تجاوزها خاصة فى الإنتاج المعلوماتى ، للتعرف على ذلك يجب معرفة طبيعته الإنتاجية ؛ تتم صياغة تطبيقات الحاسب الآلى من خلال إحدى لغات البرمجة ، فى نفس الوقت يمكن إنجاز نفس المهمة باستخدام لغة برمجة أخرى ، أو ابتكار خوارزمية ما لتنفيذ مهام ، فيأتى آخر بابتكار خوارزمية أخرى عن طريق عناصر و عمليات مغايرة تقوم بنفس العمل متخطية القيود التى تضعها قوانين حقوق الملكية الفكرية ، فالحلول فى الإنتاج المعلوماتى متعددة و متنوعة و لا حدود لها و هذا ما استفاد منه مناصرى حركة البرمجيات الحرة“ و ”المصادر المفتوحة بإنشاء برمجيات شبيهة بالتى تحتكرها الشركات الكبرى باستخدام حلول مبتكرة متخطية كافة عقبات مفاهيم الحقوق الفكرية …

مع انتشار شبكة الأنترنيت أدت التقنيات الرقمية و عالم الشبكات المتنامى و بسبب الصراع المحتدم بين الشركات المنتجة للمحتوى الإبداعى و الناشرين من جهة و بين المستخدمين / المستهلكين من جهة أخرى بات واضحاً أن هناك فجوة كبيرة بين الجهتين لا يمكن بأى حال من الأحوال إغلاقها بسهولة ، فعالم الإنترنيت يعتمد فى الأساس على اللامركزية و الحرية فى تداول المحتوى ، لكن فى المقابل الشركات المحتكرة أرادت فرض وصايتها على الشبكة ، فكان لابد من إيجاد صيغ جديدة لحقوق الملكية الفكرية تناسب طبيعة هذا العالم الجديد و بالتالى على نقيض من المفاهيم التقليدية لحقوق الملكية الفكرية Copyright Model الذى أصبح تقريبا غير مجدى نظرا لطبيعة عالم الشبكات الرقمى الأكثر رحابة فى التداول بدون الحاجة فرضيا لوسيط فيزيائى كالأقراص الضوئية أو الورق أو شرائط الفيديو كاسيت … الخ ، ليسفر عن ظهور نموذج معاكس هو الحقوق المتروكة أو Copyleft Model التى أدت إلى انطلاق صيغ أخرى مشتقة منها ما عرفت بأسم المشاع الإبداعى“ أو Creative Commons ، و التى استطاعت خلال فترة وجيزة أن تؤكد وجودها فى عالم المحتوى الإبداعى بشكل ظاهر ، بدأت مفاهيم المشاع الإبداعى مركزة على الإنتاج الفنى و الثقافى ، لكنها اليوم تعدتها إلى الإنتاج الفيزيائى الصناعى ، تطورت مفاهيم المشاع الإبداعى ليتم تأسيس مؤسسة غير هادفة للربح تقف ورائه ، و نتيجة لحماس و إيمان العديد من المشاركين فى هذا المشروع أصبح لها مكاتب و فروع فى أكثر من خمسين دولة …

تتضح مهمة المشاع الإبداعى فى كونها حلا وسطاً بين نموذج كل الحقوق محفوظة و نموذج الحقوق المتروكة أو الملكية العامة ، بناها المؤسسيين على مبدأ إن المنتج الإبداعى تزداد قيمته الاجتماعية بزيادة عدد الأفراد المستفيدين منه ، بالإضافة إلى ذلك أن تلك المنتجات الفكرية ليست معرضة للاستهلاك بالمعنى المفهوم المادى ، و بالتالى لا تخضع للقصور الطبيعى ، فالأبداع البشرى غير محدود …

إنها محاولة لإعادة بناء المجتمع على أسس الحرية الإنسانية و ليس مبادئ السوق ، و البحث عن بدائل فى مواجهة التناقضات التى نعيشها اليوم بين نظام السوق القائم على مبدأ الندرة و الشح ، فى مقابل المعلومة التى أُساسها قائمة على الوفرة و الإتاحة

إن زيادة محاولات التمرد و تنوعها على نظام السوق الرأسمالى تؤكد مدى الأزمة التى يعيشها اليوم ، فالمجتمعات بدأت تشعر بفشل المنظومة من الأساس و هذا ما نلاحظه فى العديد من الانتفاضات الجماهيرية فى اليونان ، أسبانيا ، فرنسا ، انجلترا و أخيرا ما نراه من حراك جماهيرى فى الأردن … حتى فى أمريكا باتت حركة احتلوا وول استريت معبرة بشكل كبير داخل المجتمع الأمريكى عن رفض نظام السوق ، و لكن هل تكفى حركات التمرد تلك و الاحتجاجات الجماهيرية المتشرذمة لإحداث تغيير ؟ ! ؛ ما يحدث فى العالم اليوم يؤكد إننا فى حاجة ضرورية إلى مشروع عام يتقاطع مع حركة التاريخ ليؤسس مجتمع آخر جديد أكثر نضجاً ، عدلاً ، و حرية ، فما نشاهده اليوم من تصاعد للصراع الطبقى بسبب عدم المساواة الاجتماعية و الاقتصادية و فشل الديمقراطية البرجوازية فى إيجاد حلول بسبب بنيتها المضطربة يؤكد ضرورة البحث عن مخرج للإنسانية من أزمتها التى تسببت فيها الرأسمالية و البحث عن بديل عادل أجتماعيا و اقتصاديا تتجاوز مفاهيم الملكية الخاصة و المضاربات فى البورصات إلى اقتصاد أكثر عدلا يهتم بالإنسان المجرد ، و علاقات سياسية لتكون فى خدمته و ليست فى خدمة مصالح الشركات الكبرى المسيطرة و المحركة للأوضاع السياسية ، لننطلق معاً إلى الحل و لنتذكر كيف خرجت علينا النيوزويك الأمريكية فى إشارة لتحولات قادمة فرضتها فشل المنظومة الرأسمالية عندما عنونت صفحتها الرئيسية فى عددها بـ 19 فبراير 2009 قائلة نحن جميعا اشتراكيون الآن!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

و رحل مفكر آخر “نصر حامد أبو زيد“

تنظيم القاعدة بيقتل 37 مسيحي عراقي علشان كامليا المصرية !!

الرأسمالية : قصة حب !