الأحزاب جزء من نسيج المجتمع ... و لكن ّ!


في مقال نشر في مجلة Sociological Theory بعنوان " هل تصنع الأحزاب الانقسامات الاجتماعية ؟ " ، قام المدون و الباحث الأمريكي بنجامين كير بكتابة ملخص له باللغة العربية يمكن قراءته من هنا ، و كان دعاني للقراءة و الرد ، و بعد قراءة سريعة و جدت أنه لدي بعض الملاحظات البسيطة و لكني وجدت أنه من المجحف أمام هذه البحث القيم أن يكون ردي عبارة عن كلمات بسيطة سريعة ، كذلك وجدتها فرصة للتحاور مع توجه ثقافي آخر ، فالحوار الفكري و تبادل الثقافات متعة لمن يعشق العقل و القـلـم.
ارتكز البحث على ثلاثة مشروعات سياسية تم وصفها بأنها متجانسة عرقيا أولى هذه المشروعات في الولايات المتحدة من خلال الحزبين الرئيسيين الديمقراطي و الجمهوري ، ثاني المشروعات حزب العدالة و التنمية في تركيا ، ثالث المشروعات الحزبية حزب بهارتيا جاناتا الهندي ، لا أختلف كثيرا مع ما ارتكز عليه البحث و لكن لدي بعض التوضيحات التي تختص بالمجتمع المصري و الحياة السياسية في مصر ، خاصة و ان البحث تطرق إلى التجربة المصرية و لو بشكل حثيث من خلال إشاراته لجماعة الإخوان المسلمين في مصر كتجربة بنيت على أسس أثنية دينية ، لذا كان لابد من الرجوع إلى تاريخ الأحزاب السياسية في مصر للتعرف على أسس تكوين تلك الأحزاب.

بدأت الأحزاب السياسية في مصر منذ بداية عشرينات القرن الماضي إلا أنها في الواقع لم تكن ترتكز على أيديولوجيات بل كانت ترتكز على أسس طبقية في الأساس بالرغم من تبني بعضها ايديولجيات فكرية إلا أنها كانت لخدمة طبقاتهم الاجتماعية و للحفاظ على مكاسبها أو للحصول على مكاسب تعينها في معركتها للتواجد في الشارع السياسي ، فنجد مثلا حزب مثل الأحرار الدستورين كان يعبر عن كبار الرأسماليين من كبار ملاك الاراضي الزراعية ، و في المقابل نشأت كل من الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني التي عرفت في التاريخ السياسي المصري باسم حركة "حدتو " ، و كذلك الحزب الشيوعي المصري "حشم" ، وقد تبنى هذان الحزبان أو الحركتان التعبير عن مصالح العمال و الحرفيين و الفلاحين ، و جاء بينهم أحزاب مثل الوفد و الوطني كممثلين للطبقة الوسطى ، بينما جاء تكوين حركة الأخوان المسلمين بالرغم من توجهها الديني إلا أنها في التعريف السياسي تعبر عن مصالح الطبقة البرجوازية الصغرى التي تتكون من التجار و ليس رجال الأعمال أو ملاك الأراضي الزراعية بالرغم أن منشئ الجماعة ينتمي اساسا للشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة و بداية تكوين الجماعة كان يعتمد على الفقراء من الشباب المتدين ، و لكن التحول جاء عندما تقدم الملك فاروق بالتبرع للجمعية بمبلغ من المال بالإضافة إلى مساهمته في بناء مقر الجماعة بمدينة الإسماعيلية ، فوجد عددا من التجار بما أن الملك - الذي كان يمتلك في تلك الفترة شعبية قوية – يساهم في الجماعة فلا ضرر من الاشتراك بها و ساهموا فعلا بأموالهم في إصدار العديد من الإصدارات الصحفية لخدمة أهداف الجماعة كذلك في تمويل عملياتها خصوصا مع حرب 1948 و تمويل تدريب و تسليح و سفر المتطوعين ، ثم بدء التحول خصوصا بعد اغتيال مؤسسها عام 1949 فحدث تحول أيديولوجي بالرغم أن الركائز الفكرية للجماعة مازلت ترتكز على ما عرف باسم "رسائل الإمام الشهيد" ؛ و إلى اليوم نجـد جميع قادة الأخوان ينتمون إما للشريحة العليا للطبقة المتوسطة أو للطبقة البرجوازية الصغيرة ، بينما في المقابل "ملح الأرض" أو المنتمين عاطفيا و فكريا من الفقراء أو من الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة بعيدين تماما عن القيادات العليا للجماعة ، لذا سنجد على مدار التاريخ السياسي في مصر أن الصراع طبقي أكثر منه أيديولوجي أو عرقي و يظهر ذلك بوضوح في الآتي: -
عندما أشتد عود الطبقة البرجوازية المصرية بعـد نهاية الحرب العالمية الأولى ، و زاد طموحها السياسي مع تأسيس الجمعية التشريعية ( البرلمان ) ، استطاعت البرجوازية المصرية إصدار قانون عام 1930 يشترط على من يتقدم للترشيح للبرلمان بتسديد مبلغ 50 جنيه لمجلس النواب ، 100 جنيه لمجلس الشيوخ ، ثم عدل القانون عام 1935 بزيادة المبلغ لـ 150 جنيه لكلا المجلسين ، فانعكس ذلك بالطبع على التركيب الطبقي لممثلي الشعب في البرلمان و تم استبعاد الفلاحين و العمال من الترشيح ، حتى دستور 1923 و الذي يعتبره الكثير من أنصار الليبرالية انه أكثر الدساتير ديمقراطية في التاريخ السياسي المصري ، جاء في المذكرة التفسيرية التي صدرت بشأنه بارتباطه بمناهضة الحركة الاشتراكية و الشيوعية التي تجتاح البلاد و جاء بها : "إن بعضا من الحرية الدستورية لا يمكن تطبيقه على حملات تحمل على اساس الهيئة الاجتماعية كخطر الدعوة البلشفية الموجودة الآن ، فأنه يضطر جميع الحكومات إلى اتخاذ تدابير قد تكون مناقضة للمبادئ المقررة بالدستور ، لأجل ضمان حرية أهل البلاد المسالمين و الموالين للقانون." 

لذا نجـد أنها في نفس الوقت أبقت على قانون الانتخابات لسنة 1930 بتعديلاته قائما بغير تغيير للحفاظ على التمايز الطبقي داخل المجتمع المصري في تضاد مع ما تضمنه الدستور من الفاظ مثل الحرية الشخصية و المساواة في التمتع بالحقوق المدنية و السياسية و حرية الرأي.

سنجد من هذا أن الطبقات الاجتماعية و ليس العرقيات اساس في التكوين الحزبي المصري ، فحتى الحراك السياسي الذي حدث مؤخرا بدأ من انتشار ظاهرة التدوين ، شباب المدونين في أواخر عام 2003 أغلبهم ينتمون للطبقة المتوسطة يغلب عليهم التوجه اليساري ، يرون أن غياب العدالة الاجتماعية في المجتمع المصري في الفترة الأخيرة حدث بسبب سيطرة رجال الأعمال من الطبقة البرجوازية الكبرى على مقاليد الحكم والسياسة في مصر ، لذا ستجد رفضا "شبه" قطعيا للتنظيمات الحزبية فهم يرون أن الأحزاب أصبحت لا تعبر عن مصالح الطبقة الوسطى التي كانت عماد المجتمع المصري على مدى عقود سابقة ، حتى المنتمين منهم فكريا لتيارات دينية أنجرف نحو نفس المفاهيم تقريبا و لكن تم صباغتها بالفكر الديني لتتناسب مع توجهاتهم.

ولكن خلال السنتين الأخيرتين بدأت تظهر ملامح الحزبية على حركة التدوين في مصر فأصبح هناك ما يعرف بالمدونات الأخوانية ، و المدونات الاشتراكية ، و المدونات الليبرالية ، و أخرى ذات توجه ناصري قومي ، بل و أصبحت هناك تنظيمات سياسية ترعى تلك المدونات بشكل واضح في عودة للتنظيمات السياسية الحزبية للتواجد مرة أخرى ، فأي حراك بدون أيديولوجية واضحة سيكون اقرب إلى ثورة غوغاء بدون أهداف إستراتيجية يرتكز عليها.

أما إذا اخذنا التغيير الذي حدث في البيت الأبيض مؤخرا و صعود نجـم الحزب الديمقراطي كمثال أرتكز عليه الباحثين سنجد الآتي :
إذا راجعنا استطلاع للرأي قامت به Rasmussen Reported إبان الانتخابات الرئاسية الأخيرة سنجد أن 33% من الأمريكيين يفضلون الاشتراكية على الرأسمالية ، بينما فضل 37% الرأسمالية ، ووقف 30% على الحياد مترددين ؛ ماذا نقرأ من هذا الاستفتاء أن التغيير الذي كان شعار الحملة الانتخابية للرئيس أوباما و الذي كان يرتكز على تغيرات تتجه نوعا ما نحو الاشتراكية الديمقراطية وجدت ترحيبا كبيرا في أكبر معاقل الرأسمالية ، فالناخب الأمريكي وجد أن التوجه الرأسمالي بدون ضوابط أدى إلى سيطرة طبقة رجال الأعمال على مقاليد الحكم في أمريكا حتى أننا شاهدنا رؤساء لشركات السمسرة في البورصة يحتلون منصب "وزير الخزانة" ، و هذا ليس في صالح الطبقات المتوسطة و الأدنى التي عانت كثيرا من جراء قراراتهم و التي أدت إلى انهيار مالي نتيجة للممارسات الخاطئة في عمليات الرهن العقاري و التي كانت موجهة ضـد مصالح الطبقة المتوسطة و التي تم خداعهم بالقروض للسيطرة على منازلهم ثم تم المضاربة بهذه القروض في البورصات فحدث الانهيار ، فكان هنا اختيار التغيير ، بالطبع حدث نوع من استغلال العواطف الدينية من كلا الجانبين أو أحيانا العرقية فأوباما ينتمي للأقليات السوداء ، و في المقابل كان مرشح الجمهوريين ينتمي للأغلبية الأنجلوسكسونية إلا أن العامل الطبقي كان أكثر تأثيرا ليس لانتماء أوباما للطبقة المتوسطة فهو ليس منها ولكن لأن توجهه الاقتصادي كان لصالح هذه الطبقة ، مثال على ذلك مشروع قانون الرعاية الصحية مثلا الذي أستطاع تمريره من الكونجرس مؤخرا و غيره من مشروعات القوانين التي من خلالها يحاول إعادة الاتزان للطبقة المتوسطة و التي هي عماد أي مجتمع.

هذا ايضا تأكيد أن العامل الطبقي يؤثر على الواقع الحزبي و السياسي بشكل أكبر بكثير من العامل العرقي أو الطائفي ، فإذا أخذنا مثال آخر حزب (بهاراتيا جاناتا) في الهنـد استطاع الصعود على قمة الهرم السياسي في الهند متخطيا حزب عريق كحزب المؤتمر ، اعتمادا على النعرة العرقية فهو ممثلا للهندوس في مقابل المسلمين و المسيحيين إلا أنه سقط فجأة عام 2004 كما ظهر لأنه فشل في إحداث التوازن الطبقي و كانت فترة حكمه في صالح طبقة الرأسماليين ضـد الطبقات الأدنى.

أحمد داود أوغلو " نعـم نحن العثمانيون الجدد "
المثال التركي له خصوصية فهو شكلا يظهر للعامة أنه حزب يمكن تصنيفه كـ "حزب إسلامي" إلا أنه في الواقع يشكل خليط غريب التكوين ، فالحزب كما نعرف قام على أنقاض حزبي الرفاه و الفضيلة ، و في نفس الوقت ضم عددا من القيادات السياسية انشقت من أحزاب أخرى مثل حزب الحركة القومية ، حزب الطريق القويم ، و حزب الوطن الأم و هي أحزاب ذات توجه تركي قومي ، كذلك لشخصيات سياسية من تيار يمين الوسط ، و جاءت توجهاته الاقتصادية في أغلبها لصالح الطبقة المتوسطة فقيادات الحزب تعلمت من أخطاء من سبقهم و علموا أن الشعارات الدينية و حدها بدون برنامج اقتصادي و اجتماعي قوي و مرونة سياسية تتيح لهم التواجد في الشارع السياسي لن تعطيهم القدرة على الصمود أمام التحديات التي يواجهونها ، خصوصا مع الأزمة الاقتصادية التي عاشتها تركيا من منتصف القرن السابق إلى أوائل القرن الحالي ، لذا جاء برنامجهم في الاساس موجه نحو الإصلاحات الاقتصادية ، ليس من خلال توجه رأسمالي ، بل من خلال منظومة اقتصادية لها بعد اجتماعي واضح ، فخلال الحفل التأسيسي للحزب صرح أردوغان: إنه ورفاقه قاموا بتأسيس هذا الحزب لمحاربة الفقر والجوع في تركيا" ، إذا كان توجهه نحو الطبقات الفقيرة و محاربة الفقر و البطالة و التي زادت معدلاتها بشكل كبير منذ أواخر القرن الماضي توجها أصيلا في سياساته ، هذا فضلا عن المرونة السياسية و التي قد يرى فيها البعض خصوصا الإسلاميين أنها بعيدة عن البرنامج الإسلامي المعروف فالحزب لم ينقلب على العلمانية التركيا ، بل كانت توجهات الحزب أكثر براجماتية خصوصا عندما توجه مؤسسو الحزب إلى ضريح أتاتورك يعلنون احترامهم لمبادئ الدولة العلمانية و التي تعـد عنصرا للسلام الاجتماعي و هذا مذكور بشكل واضح في البرنامج الأساسي للحزب.

أخيرا كما قلت في البداية كان لدي فقط بعض الملحوظات ربما بعيدة عن طبيعة البحث الذي أخذ بعدا اجتماعيا ، بينما جاءت ملاحظاتي أقرب للتحليل السياسي من خلال وجهة نظري المتواضعة ، و لن أنهي كلماتي قبل أن اشكر بنجامين كير على أتاحته الفرصة لقراءة هذا البحث الرائع و التلخيص الممتع الذي قام به.

تعليقات

  1. أتفق معاك يا عمرو ... الأحزاب بتعبر فقط عن المصالح الطبقية و اللي عايشين وهم الليبرالية و الرأسمالية و هما بنتموا للطبقة المتوسطة أو الأقل ، عندهم أوهام ان الرأسمالية هتحقق طموحهم للأسف هيصحوا على كابوس مزعج

    ردحذف
  2. الدنيا عندنا ماشيه خلف خلاف

    ولسه ياما حنشوف طول ما احنا كده محلك سر


    خالص تحياتي

    ردحذف
  3. اهلا رشا ... الأحزاب ما هي إلا إنعكاس لمصالح أعضائها الطبقية مهما رفعت تلك الأحزاب من شعارات
    تحياتي لكي

    ردحذف
  4. كلمات من نور

    آسف مفهمتش ما تقصده ... ياريت توضيح
    وشكرا على تواصلك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

و رحل مفكر آخر “نصر حامد أبو زيد“

تطور الحياة السياسية و الاجتماعية فى مصر

"سلطة بلدي" ... بس دلعة شوية !