انتحار أشجار الجميز !
(1)
- كان نفسي أنسيك أحزانك
- صعب
- ليه كل ما بقرب منك بتبعد !
- ......
عدت للتلفزيون مرة أخرى ... ولكني لم اعد اسمع شيئا صورا تتراء أمامي ... أطفال قتلى ... نساء تبكي ... رجال يتحركون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .... لم يعد هناك جديد ... الأحداث تتكرر ، الأفكار تتوالى كأنها في سباق مع زمن تتبدل فيه المواقف ككرة البالون المليئة بالغاز ليتقاذفها الهواء ، مللت أخبار جعلتني اشعر إني أسبح في بحر من دماء و كذب ، قررت الخروج للشارع ربما أجد به بعض الهواء.
أناس يتحركون على شريط من الأسفلت الأسود ... آلات تتحرك بلا معنى ... أنكم لا تشعرون بحياتكم القذرة ... لم تعودوا تصلحون لشيء سوى الامتعاض و الحسرة ، فتاة صغيرة تلعب مع أقرانها تضحك بشدة و تنظر لي بتعجب كأنها تسألني لماذا لا تضحك مثلنا ... أشفق عليك يا ابنتي ، أشفق عليك من غد قاتم ، أخذت أتجول بنظري نحو الأشجار التي تظلل شارعنا ، أغصانها مائلة كأنها تبكي حال جيرانها ، أقدامي تسيرني كيفما شاءت أو كيفما شاء القدر !
(2)
” وعندك لمون ساقع للأستاذ وشيشة معسل“ ، كان هذا نداء صبي القهوة ”اشرف“ عندما رآني جالسا في ركني المعتاد ، نظرت له محييا ، و أخذت أتجول بين الجالسين ، نفس الوجوه التي ألقاها دائما منذ سنوات ، بالرغم من غيابي عنهم الشهور الثلاثة الأخيرة ، إلا أنهم كتماثيل من الشمع لا تتحرك قد تتوهم أنها حية ولكنها باردة لا حياة فيها ، نفس الأحاديث للمملة ، ولكن يجب على الجميع الاستماع حتى يأتي دوره في الكلام ، يأتيني ”اشرف“ بعصير الليمون البارد بترحاب شديد
- بقالك كتير غايب يا أستاذ مسافر و ألا إيه
- كنت مشغول شوية الفترة اللي فاتت
يضع الليمون ، و يشير لصبي آخر أن يأتي بالشيشة مسرعا ، أخذ بعض الجالسين في الانتباه لوجودي و بدأت التحيات المعتادة و الدعوات للانضمام في الحديث المتكرر ، رفضت بأدب مبالغ فيه طمعا في الهدوء و الرغبة في الوحدة المختارة ، تركت نفسي لعصير الليمون البارد و مكعبات الثلج العائمة على سطحه ، أحاول الاستمتاع بها في هذا الجو الحار ، لأصحو على حركة متوترة بين المقاعد ، التقت جميع العيون ناحية مدخل المقهى ، لأجد امرأة ممتلئة ، ذات بياض ناصع وردي اللون ، تتمايل أعين الجالسين مع تمايل أردافها و اهتزاز صدرها النافر وهي تخطو خطواتها داخل المقهى ، عيون لاهثة جائعة للحم دافئ ، وهي تتحرك مختالة بنفسها تعرف أن هذه العيون الجائعة تكاد تنخلع من أماكنها ، تأخذ مقعدها في أقصى القهوة ، يذهب إليها صبي القهوة مسرعا آتيا بكرسي ليقوم بالوقوف فوقه لإيقاد المروحة الكهربائية في المكان المجاور لمجلس هذه المرأة المختالة بنفسها ، و الابتسامة تعلوا شفتيه مختلفة عن الابتسامة السابقة فهي منفتحة لامعة بعيدة كل البعد عن ابتسامته الآلية التي أعرفها جيدا ، تكثر الهمسات بين الجالسين عن هذه المرأة التي ورثت محل الكباب القريب من المقهى بعد وفاة زوجها ، كما ورثت العمارة التي تقطن بها في مكان متميز ، يتندرون بحالتها قبل الزواج و كيف كانت تعيش مع أهلها تقتات فتات الطعام اليوم تعيش عائمة فوق تلال من النقود ، ضحكت من داخلي ، كانت نفس هذه المرأة أمامكم منذ سنوات قليلة لم يعيرها احد اهتمام بل كنتم تشمئزون من فقرها ، فقط زاد جمالها بريق الذهب المتدلي من عنقها و أذرعتها ، لم يحاول أحدكم الاهتمام بهذه الانسانة التي كرهت حياتها في وقت من الأوقات حتى أنها حاولت الانتحار هربا من قسوة الحياة و قسوتكم ، هاهي اليوم تقف مختالة بنفسها أمامكم و لعاب ألسنتكم يسيل ليس رغبة في الحب ولكن طمعا في الذهب ، هذه هي الحياة أيها الأصدقاء تتبدل ولكنكم تبقون كما أنتم تتندرون على حظكم السيء.
ألقيت ما بقي من كوب الليمون في جوفي ، و ناديت ”أشرف“ ليأخذ حسابه من النقود ، لأعود لامتطي نفس طريق الإسفلت عائدا من حيث أتيت ، الظلام يسود الطريق إلا من بعض أعمدة متناثرة تنشر ضوئها على استحياء ، مازال بعض الأطفال يمارسون ألعابهم المرحة ، وقفت قليلا لاستمتع بسعادتهم ، ولكني أشعر بفقدان معنى هذه السعادة ، الزمن يكثر أثقاله على قلبي و عقلي.
رائعة حقيقي حلوة .. ياريت تكملها
ردحذفأختك ياسمين
أديـــب كبير يا زميلى العزيز
ردحذفرائعه واحساسها قوى وواقعى جدا
فى انتظار المزيد والبقيه
منذ عرفتك وانت استاذى الذى نستقى منه الخبرات ....لكنى لم اعلم انك بحــار كبير .. ستبحر بنا الى حيث لا ندرى ...برافو ...من قلبى